بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها دونالد ترامب واختياره للسيناتور جي.دي فانس نائبا له، بات واضحا أن على أوروبا الاستعداد للتعايش مع سياسية "أمريكا أولا"، في حال فوز الرئيس الأمريكي السابق بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
"أميركا أولاً" هي عقيدة في السياسة الخارجية روج لها واعتمدهادونالد ترامب خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2017 و2021. وتؤكد هذه العقيدة على مبدأ إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية في الشؤون الدولية، حتى وإن تعارض ذلك مع مبادئ التعاون المتعدد الأطراف الذي تتبعه الدبلوماسية الأمريكية تقليدياً. وفي حال إعادة انتخاب ترامب رئيسا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن لهذه السياسة أن تؤثر على العلاقة عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا؟ سؤال يشغل بال القادة الأوروبيين في فترة يواجه فيها العالم أزمات دولية متعددة الأوجه.
فعلى المستوى الاقتصادي يركز ترامب بشكل كبير على تعزيز الاقتصاد الأمريكي من خلال التدابير الحمائية مثل التعريفات الجمركية على المنتجات الأجنبية وإعادة التفاوض على اتفاقيات التجارة الدولية، لتحقيق شروط تفضيلية للولايات المتحدة.
وفي مجال الأمن القومي، كان خفض انتشار القوات الأمريكية في الخارج والتركيز على تعزيز الدفاع الوطني جزءًا أساسيًا من استراتيجية ترامب الأمنية. إضافة إلى تركيزه على أهمية السيادة الوطنية ورفض الاتفاقيات الدولية التي كان يُنظر إليها على أنها تحد من استقلالية واشنطن، مثل اتفاقية باريس للمناخ. فكيف سيكون موقف ترامب تجاه الحلفاء الأوروبيين سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني والعسكري داخل حلف النانو أو بشأن حرب أوكرانيا؟
رد فعل صادم للأمريكيين على محاولة اغتيال دونالد ترامب
الخوف من تخلي ترامب عن أوكرانيا
ناشد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ (18 يوليو/ تموز) الولايات المتحدة بعدم التوقف عن دعمها المهم لأوكرانيا في مواجهة روسيا حتى بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وقال ستولتنبرغ على هامش اجتماع المجموعة السياسية الأوروبية في بريطانيا إنه "من المهم للغاية" أن تحافظ واشنطن على دعمها لكييف. وجاء ذلك بعد تصريحات أدلى بها المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس ج.د. فانس، أعرب فيها عن معارضته لمزيد من الدعم الأمريكي لأوكرانيا. ويذكر أن فانس يعتبر من أشد المعارضين لمبيعات الأسلحة الأمريكية إلى كييف. ومن بين أمور أخرى، عارض في بداية العام بشدة مساعدات عسكرية أمريكية جديدة لأوكرانيا بقيمة 61 مليار دولار.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "بوليتيكن" الدنماركية الليبرالية (18 يوليو/ تموز 2024) معلقة على تعهد دونالد ترامب عدة مرات بإنهاء حرب أوكرانيا باتفاق سلام حتى قبل توليه منصبه رسميًا بعد فوز محتمل في انتخابات نوفمبر. "كيف من المفترض أن يحدث ذلك؟ لا أحد يعرف، لكن أغلبهم يخشون أن يعني ذلك اضطرار أوكرانيا إلى التنازل عن العديد من مناطقها المحتلة، أو ربما كلها. وتدل كل المؤشرات على أن إعادة انتخاب ترامب من شأنها الضغط على أوكرانيا لحملها على الاستسلام الجزئي، وإلا فإنها ستحرم من المساعدات العسكرية. إن الأفكار والخطط في هذا الاتجاه غير مقبولة على الإطلاق بأي معيار سياسي أو أخلاقي".
وذهبت صحيفة "غازيتا فيبورتشا" البولندية (17 يوليو) في نفس الاتجاه وكتبت "أرسل دونالد ترامب (بعد اختياره لنائبه) إشارة واضحة أخرى إلى العالم، مفادها أن الولايات المتحدة ستعتمد على الانعزالية (..) لا يتمتع فانس بخبرة كبيرة في السياسة، وخاصة الخارجية منها (..) في مقابلة مع الصحفي اليميني والمستشار السياسي ستيف بانون، قال فانس: لا يهمني حقًا ما يحدث لأوكرانيا. وهو من أشد منتقدي المساعدات الأمريكية لأوكرانيا في الوقت الذي تكافح فيه ضد عدوان بوتين الهمجي. ودعا كييف إلى وقف العمليات العسكرية وإجراء مفاوضات فورية مع بوتين. وذكر بصراحة أن العودة إلى الحدود الأصلية لأوكرانيا أمر مستحيل. وعقيدته واضحة: يجب على أوكرانيا أن تعترف بإملاءات روسيا الحربية دون مساعدة من الولايات المتحدة. وتُركت أوروبا لتدافع عن نفسها في مواجهة تهديدات بوتين، بينما تركز واشنطن على تنافسها مع الصين. وهذا بدوره يعني أننا، بولندا وأوروبا على نطاق أوسع، من الممكن أيضاً أن نتبنى المبدأ التالي: أنا لا أهتم في الواقع بما يحدث لك".
أوربان ـ خطوات استباقية تضع ترامب في الحسبان
في رسالة مثيرة (12 يوليو)، حذر رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بعد رحلاته المكوكية إلى بكين وموسكو وواشنطن، معلناً عن تغيرات جذرية قد تشهدها السياسة الأمريكية تجاه الصراع في أوكرانيا. واكد أوربان أن إعادة انتخاب ترامب "المحتملة" من شأنها أن تُغير الديناميكية المالية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بدعم أوكرانيا، ومن المرجح أن يتحمل الاتحاد الأوروبي العبء الأكبر في المستقبل. وانتقد رئيس الوزراء المجري الاستراتيجية الأوروبية بشأن أوكرانيا واصفا إياها بأنها مجرد نسخة من السياسة الأمريكية. واعتبر أنها تفتقر إلى التخطيط السيادي والمستقل. وجاء في الرسالة "أقترح مناقشة ما إذا كان الاستمرار في هذه السياسة منطقيًا في المستقبل". واقترح أوربان أن يغتنم الاتحاد الأوروبي الفرصة الحالية لإعادة النظر في نهجه. ودعا إلى بذل جهود لتخفيف التوترات وتهيئة الظروف لوقف إطلاق النار وربما بدء مفاوضات السلام.
غير أن مبادرة أوربان، كرئيس دوري للاتحاد الأوروبي، أثارت موجة من الانتقادات في العواصم الأوروبية، بل وحتى داخل المجر نفسها. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "نيبسزافا" اليومية المعارضة في بودابست (13 يوليو) "في حالة الفوز (في الانتخابات الرئاسية)، من المحتمل أن يتخذ ترامب قرارات من شأنها تقويض الوضع في أوكرانيا وتؤدي إلى وقف المساعدات لهذا البلد. وهذا قد يُجبر كييف على التنازل عن الأراضي (التي تحتلها روسيا) (...) ستكون سياسات ترامب بمثابة كارثة على أوروبا لأنها ستسلم القارة إلى الكتلة الاستبدادية (التي تهيمن عليها الصين وروسيا). (...) لقد توجه فيكتور أوربان إلى ترامب. ثم بارك العالم الأخبار السارة التي روجت بأن ترامب سوف «يحل» الحرب الأوكرانية بمجرد أن يصبح رئيسًا. وما يعنيه هذا واضح: ليس فقط استسلام أوكرانيا، بل وأيضاً تعريض الوضع الأمني للخطر في أوروبا. لذا مفهوم، لماذا لا يثق حلفاؤنا في رئيس الحكومة المجرية".
الأحادية مقابل التعددية "عودة" تقلق أوروبا
أحيانًا يتخذ السيناتور فانس من ولاية أوهايو، مواقف أكثر تطرفًا من دونالد ترامب، خصوصا في مجال السياسة الخارجية. وإذا عاد ترامب للبيت الأبيض، فقد تواجه أوروبا سيناريوهات مختلفة فيما يتعلق بالعلاقات الأطلسية، منها تفاقم التوترات الاقتصادية. فقد يواصل ترامب سياساته التجارية الحمائية، مما قد يؤدي إلى مزيد من الصراعات مع الاتحاد الأوروبي. ويمكن للحروب التجارية والعقوبات المحتملة أن تزيد من توتر العلاقات الاقتصادية. على المستوى العسكري قد يواصل ترامب الضغط على الشركاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي لزيادة إنفاقهم الدفاعي. هناك احتمال أن تقوم الولايات المتحدة بتخفيض وجودها العسكري في أوروبا بشكل أكبر، مما قد يؤدي إلى زيادة الضغوط الأمنية على دول الاتحاد الأوروبي.
قد يؤدي نفور ترامب من الاتفاقيات والمؤسسات المتعددة الأطراف إلى المزيد من الانسحابات من الالتزامات الدولية لواشنطن. وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من القطيعة بين الولايات المتحدة وأوروبا. وقد تجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى تشكيل سياستها الخارجية بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة والبحث عن تحالفات بديلة. صحيفة "لا فانغارديا" الإسبانية (18 يوليو) علقت بهذا الشأن وكتبت "تنقسم الآراء حول حجم الضرر الذي يمكن أن يلحقه ترامب بالولايات المتحدة، ولكن هناك (ما يشبه الاجماع) بشأن الضرر الذي قد يلحقه بالديمقراطية الليبرالية، وخاصة في أوروبا، والمؤسسات المتعددة الأطراف. ومن المرجح أن يدفع ترامب نحو استسلام أوكرانيا، بتقديم القليل من المساعدات لها (أو لا يقدمها على الإطلاق)، ويواجه الاتحاد الأوروبي بالبطاطا الساخنة المتمثلة في دولة مدمرة تريد الاندماج في أوروبا ولكن مع ضمانات أمنية مشكوك فيها. والسؤال هو: ما الذي يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يفعله؟ يقال إن التكتل القاري لا يحرز تقدماً إلا في أوقات الأزمات.(...) مستقبل أوروبا بات أكثر غموضا اليوم، ويحتاج إلى مزيد من التكامل والسياسات المشتركة، لكن ماكرون فشل، ولا توجد قيادة في ألمانيا واليمين المتطرف ممثل في المؤسسات الأوروبية".